
..
أنا الأولى دائما في المنزل في المدرسة وحتى في إحساس الآخرين بي , , كنت أعرف جيدا منذ طفولتي مامعنى أن أجد ما أطلبه حتى وان كان صعبا, وأن أحصل على ما أُريده حتى وان استحال وجوده , منذ طفولتي عشت تاريخ دلال طويل جدا بدأ بأول خطوة فعلتُ المستحيل لتثبت على ظهر الأرض, وانتهى بأول خطوة حاولت جاهدة أن أنزع إحساس أٌقدامي بالأرض فلا تقترفها ..
.
جئتُ للدنيا الأولى لوالدين بسيطين جدا وجدوا في أول مولودة لهم اكتمال حلم وانبثاق أمل وبداية مشوار سعادة لا ينتهي , وكنت كما يقولون دائما عند حسن ظن حلمها ومُطابقة لمواصفات آمالهما , جئت كما يُريدان وأكثر , ذكية وجميلة ومجنونة بالدنيا و بهُما , كان مشوار تربيتي صعب فأنا لا أعرف الفرق بين حقيقة وخيال فكل ما حولي حقيقة حتى وان أقسمت أمي انه محض خيال , الرسوم المتحركة مهما بلغت من سخافة تظل بالنسبة لي واقع جميل أُقدسه أكثر من حياتي وأقيس عليه أحداث يومي , فالقطة دائما عدوة الفأر وان وجدتُ فأرا بلا قطة تتبعه ضاع يومي بحثا عنها فوق الشجرة أو بين أقدام العابرين ولا أرتاح أبدا حتى أجدها لأنني سأُدرك وقتها بأنها مثلي تبحث عن فأرا لها وأنا أبحث عنها للفأر ..
.
ولأنني كنت الفتاة الأكثر جنونا صار صعبا جدا أن تكون لي أختا منافسة لي وتُشاركني ذات الجنون وأكثر , أمي كانت تقول لي دائما أنتِ بعشر بنات ربما لذلك كبرت وحدي أُحاول أن أكون كإخوتي فبدأتُ بمتابعة المباريات واحدة تلو الأُخرى وتعلمتُ فن التشجيع وصرت أُعدد أسماء نجوم الكرة وأُحلل أخطاءهم وأهزأ بجنون أخي بفريق النصر وأُحاول إغاظته فأتغنى بــالهلال وأُعدد انتصاراته وأضحك على ثوراته وشتائمه التي لا تنتهي , كنت أُحاول أن أكون مثلهم فأنا صديقة أصدقائهم لا يكتمل أي فريق إلا بوجودي, وأنا حبيبته ملعبهم فلا بد أن أحضر حتى يكتمل العدد وتبدأ المباراة , وأنا مستودع أسرارهم فكل ليلة لابد من جلسة طويلة نتبادل فيها أسرارنا ونضحك على خيبات أصدقائنا , لم أُدرك وقتها ما معنى أن أكون فتاه وما الفرق بيني وبين الصبي , كنت أؤمن بأننا واحد مهما اختلفت الأشكال يظل الجوهر واحد لا اختلاف فيه وأمي كانت تتركني أمارس جنوني وكأنها تُدرك بينها وبين نفسها بأنني سأُجردُ من كل شيء يُسعدني ذات يوم وأبكي شوقا للحظة جهل مرت منذ قرابة العشرين عاما , أمي حكيمة جدا لذلك جئتُ أنا مجنونة جدا ولا حكمة أتعلق بها لتُصبح حياتي أسهل ...
.
كبر إخوتي وكبرت أنا وصارت متابعتي للمباريات لا تُغريهم بالبقاء معي , والليل إن جاء أجد غرفتهم مقفلة وأسمع من خلف الباب حكاياتهم تلك الأسرار التي كنت أُشاركهم فيها , وأحاول التعلق بضحكاتهم لأفهم ما يدور هناك بينهم, أذكرُ جيدا أول مرة وقفت فيها خلف باب غرفتهم اختلس السمع وأُحاول استعاده أسراري معهم , أذكر وقتها بأنني لم أفهم شيئا وبكيت لأنني أدركتُ بأن مشوارا جديدا بدأ بدوني وحكايات ستُروى بلا مباركتي لها ضحكا أو بكاءا اكتشفت بأن كل حقيقة نصل إليها تُشبه صفعة قوية على وجه أحلامنا تتبعثر معها آمالنا في أن تتحقق وتموت معها رغبتنا في التخلي عنها , وكأن الوجع محرض على الثبات واليأس دافع أقوى للتشبث بالأمل ...
.
كنت الأولى في المدرسة أيضا فأنا الطالبة المجتهدة أول العابثات بسير طابور المدرسة , أول الواصلات لشباك المقصف , أول الضاحكات حد البكاء على تعثر المعلمة بذيل ثوبها , لا أحد يجرؤ على إلقاء المقدمة في الإذاعة المدرسية سواي , ولا طالبة مهما بلغت من الدهاء تملك القدرة على منافستي في استحواذ الاهتمام والتغلب على سخط المديرة ...
أذكر جيدا بأنني لم أبكي أبدا أول يوم دراسي لي بل على العكس تماما كنت سعيدة جدا ولم أبحث وسط الحاضرات عن أمي كنت أعرف وقتها بأن المدرسة مشوار جديد سأبدؤه بدونها وسيكون أول خطوة مستقلة أقترفها في حياتي , كنت أُدرك بخيال الطفلة المرهق بأحلام لا تنتهي بأن المدرسة ستُشكل شخصيتي بفتحة فرح وضمة وجع وسكون إحساس وربما شدة خيال خصب لا ينضب , وصدقا كانت الأجمل ربما لأنني فهمتها جيدا أكثر من غيري وتأكدتُ بأن كل يوم سأعيشه فيها سيكون ذكرى أكتب عنها ذات يوم بحنين طفلة صارت أُنثى تقتات على سعادة كانت وفرح غاب , جميل حد الوجع أن نعترف بعد عمر طويل جدا أن أجمل أيامنا هي تلك التي تعود إلينا خلال أسوئها وتأتينا لتهون علينا مرارتها ...
.
كنتُ الأولى بإحساس الآخرين بي , فأنا سيدة الحفل دائما , أُدير رؤوس الحاضرين , احكي بلباقة وأضحك بجنون معادلة صعبة ولكنها كانت سهلة الحل إن خضعت لمقاييس الإحساس , لم أجد صعوبة أبدا في فهم الآخرين ربما لأنني منذ نعومة أظافري تعلمت كيف أقرأ الإحساس وأُفسر أبسط كلمة وأرق ضحكة وربما لأنني هكذا خُلقت أعرف رأي من حولي بي فأُحب من يُحبني وأجتنبُ من لا يستلطفني حتى لا يضيق المكان به , كنت أظن بأن معرفة الآخرين نعمة رائعة أُحسد عليها وبأن قراءة أحاسيسهم موهبة لا أحتاج سواها ولكنني مع الوقت أدركتُ بأنها مشكلة وطريق سهل لخسارة المتعة في الحياة , فأنا لا أُخوض علاقة كمجربة فقط ولكنني أفعلها كصاحبة إحساس تُدرك جيدا نتيجة الارتباط وتعرف نهايته , الآن فقط أُدرك كم هو رائع أن نخوض التجربة دون أن نُدرك نجاحها من فشلها وكم هو مميز ذاك الشعور الذي يأتي بعدها سواء كان جيدا أم سيء فهو يبقى للأبد وصمة لا تُنسى ..
.
أن تكون الأول يعني أن تُبصر ما حولك بوضوح أكثر , وتملك القدرة على معرفه ما يُحيط بك بقدرة أكبر , ولأن لكل شيء في الدنيا ثمن حتى أبسط الضحكات وأتفه ساعات الفرح كان لا بد أن أدفع ثمن كوني الأولى وصدقا كان الثمن غاليا جدا لو خُيرتُ بينه وبين الموت لاخترتُ الثاني غير آسفة على شيء أبدا , أعرف بأن من يقرأني الآن قد يُرددُ بينه وبين نفسه أن فتاة كأنا لا تعدو أن تكون مجرد ناكرة للجميل عالقا معها بقايا دلع لم ترحل بعد وبأنها لا تُدرك أي نعمة كبرت معها وبها , ولا ألوم أحدا فيما يراه فالدنيا خُلقت بألف أالف صورة قد تبدو جميلة للبعض وباهته للبعض الآخر , الدنيا خُلقت بألف ألف باب قد يُفتح أمام البعض ويُغلق أمام البعض الآخر , الدنيا تأخذ أكثر مما تعطي ولأننا نفرح بعطاياها نظُن للحظة بأنها لن تأخذ منا شيئا أبدا وفي نفس اللحظة التي نُحب فيها حياتنا ونُقدس أصغر لحظاتنا نخسر الكثير كمن يقف على قمة جبل سعيدا بنسائم صيف باردة وتفاجئه الريح العاصفة فيسقط باتجاه الهاوية ولا يعود من بعدها معافى كما كان بل يفقد الكثير من دم أحلامه ويُصبح جسد أمله بالدنيا مكسور لا يلتئم مهما جُبِر بالصبر ألف يوم أو يزيد ..
.
ربما مازلت الأولى وربما لا فما أعرفه جيدا الآن أنني مختلفة , لا أكاد أشعر بوجودي لأشعر بتميزي , ولا أُبصر آخر الطريق لأرى نفسي في أوله , ولا أُجيد عد النجوم لأُبصر نفسي معهم , ولا تُغريني الطيور بقدر ما تستهويني السماء , ولا أفرح بالربيع كفرحي بالشتاء , ولا أنتظر القادمين بقدر انتظاري للراحلين , ولا أجد وسط الحفلات ما يُغريني سوى الكعك وقوالب الحلويات ..
.
ربما مازلت الأولى عندهم ولكنني للأسف لا أكترث كثيرا فأنا دفعت ضريبة تميزي في حياتهم وحققتُ لهم ما حلموا به مني , منحتهم الحياة على حساب موتي , صفقت معهم فرحا برحيل آخر لحظة حرية لي معي , ورقصت بالقرب منهم ليشعروا بالرضا عن قراراتهم , وللحظة نسيت نفسي , كنت معهم الأولى مُطيعة حد التوحد معهم وراضية بكل اختياراتهم حد إلغاء أي فكرة تغيير تخطر ببالي , فعلا أن تكون الأول يعني أن تكون الأضعف , الأكثر خضوعا لرغبة من منحوك الامتياز ووضعوك تاج مرصع بالألماس على رأس حياتهم , لا ألومهم ربما أنا من أسأتُ الفهم , وكنت مغرورة بي وتائه عني ...
.
ربما مازلت الأُولى عندهم ولكنني فقدت قائمة الأولويات عندي وألغيت الأرقام من قاموس حياتي , وصارت حياتي مجرد رقم واحد لا مسمى له ولا لغة وصلت لوصف يليق به ولا أحد ممن يعتبرني الأولى وصل إليه ولا شيء أفعله أو أقوله أو حتى أكتبه يعبر عنه , رقما وحيدا لا يخضع لقوانين الحساب , ولا يُقسم إلا عليه ولا يُجمع إلا مع نفسه ولا قواسم مشتركه له مع غيره , رقما غريب في تداعيه ربما يبدو صفرا أحيانا ولكنه يعود ليتشكل كرقم لا حدود له ولا أطراف حادة يرتكز بها على السطر ..
.
فقدتُ قائمة الأولويات عندي وألغيت الأرقام من قاموس حياتي وصارت حياتي مجرد رقم واحد يأخذني إليك أنت فمعك يا نون لا أشعر بأنني الأولى ولا عبء بداية يقتلني ولا مسؤولية التميز تُلاحقني , معك يا نون أشعر بأنني أنا تماما كما يجب أن أكون أنا فلا أحتاج لوصف مركزي ولا يهم كثيرا أين أكون ومتى وكيف , ولا أُفكر برقمي عندك ولا أعود لأُحصي عدد من زاروا قلبك , معك لا أُفكر إلا بأن أكون معك بلا اسم بلا هوية بلا وطن بلا أرقام , حتى احتياجي لك لا أُدرك مداه ولا أرسم له نقطة يرتكز عليها ولا أُحذر قلبي من الانجراف معه إلى ألانهاية ..
.
أنت يا نون أخذت بيدي لأهبط من عرش الأولى ذاك الذي ضحيتُ من أجله بإحساسي بالدنيا بأسرها , أنت حملتني بحبك للسماء السابعة وتركتني أهوي للأرض السابعة أيضا , جربتُ معك كيف يتعفر وجه إحساسي وجعا من بعدك , وكيف تُزهر حدائق قلبي فرحا بحلولك , جربتُ معك يا نون كيف أبتل بمطر لا أراه وأغرق في بحر لا أعرف مداه , جربتُ معك كيف أسهر مع مجرد طيف وأحكي لمجرد أوراق ..
ولدتُ من جديد بين يديك يا نون لا أعرف إن كنت الأولى أو الأخيرة أو حتى اللاأحد والغريب أنه لا يهمني أن أعرف , فأنا سعيدة بولادة ميس جديدة لا تتحمل عبء الأولى ولا تُفكر بثمن جديد تدفعه في المقابل , أنا سعيدة لأنني أحببتُك هكذا دون أن تكون واحدا من أولئك الذين لا يبصرون في وجودي سوى أُنثى أولى تأتي لتهز عرش الهدوء من حولهم فيلتهمونها بأعينهم ولا يُبصرون ما يدور في قلبها وما يجري ما بين روحها وإحساسها ..
.
كتبتُ كثيرا اليوم ربما لأنني لم أتحدث مع أي أحد لأكثر من أربع ساعات حتى الآن , وربما لأنني غاضبة من أحدهم لست سنوات حتى الآن , وربما لأنني لا أعرف كيف أقف ما بين حرفي وإحساسي فلا يندفع كطوفان لا شيء ولا أحد يوقفان امتداده ..
ربما
.
فقط
.
ربما
أنا الأولى دائما في المنزل في المدرسة وحتى في إحساس الآخرين بي , , كنت أعرف جيدا منذ طفولتي مامعنى أن أجد ما أطلبه حتى وان كان صعبا, وأن أحصل على ما أُريده حتى وان استحال وجوده , منذ طفولتي عشت تاريخ دلال طويل جدا بدأ بأول خطوة فعلتُ المستحيل لتثبت على ظهر الأرض, وانتهى بأول خطوة حاولت جاهدة أن أنزع إحساس أٌقدامي بالأرض فلا تقترفها ..
.
جئتُ للدنيا الأولى لوالدين بسيطين جدا وجدوا في أول مولودة لهم اكتمال حلم وانبثاق أمل وبداية مشوار سعادة لا ينتهي , وكنت كما يقولون دائما عند حسن ظن حلمها ومُطابقة لمواصفات آمالهما , جئت كما يُريدان وأكثر , ذكية وجميلة ومجنونة بالدنيا و بهُما , كان مشوار تربيتي صعب فأنا لا أعرف الفرق بين حقيقة وخيال فكل ما حولي حقيقة حتى وان أقسمت أمي انه محض خيال , الرسوم المتحركة مهما بلغت من سخافة تظل بالنسبة لي واقع جميل أُقدسه أكثر من حياتي وأقيس عليه أحداث يومي , فالقطة دائما عدوة الفأر وان وجدتُ فأرا بلا قطة تتبعه ضاع يومي بحثا عنها فوق الشجرة أو بين أقدام العابرين ولا أرتاح أبدا حتى أجدها لأنني سأُدرك وقتها بأنها مثلي تبحث عن فأرا لها وأنا أبحث عنها للفأر ..
.
ولأنني كنت الفتاة الأكثر جنونا صار صعبا جدا أن تكون لي أختا منافسة لي وتُشاركني ذات الجنون وأكثر , أمي كانت تقول لي دائما أنتِ بعشر بنات ربما لذلك كبرت وحدي أُحاول أن أكون كإخوتي فبدأتُ بمتابعة المباريات واحدة تلو الأُخرى وتعلمتُ فن التشجيع وصرت أُعدد أسماء نجوم الكرة وأُحلل أخطاءهم وأهزأ بجنون أخي بفريق النصر وأُحاول إغاظته فأتغنى بــالهلال وأُعدد انتصاراته وأضحك على ثوراته وشتائمه التي لا تنتهي , كنت أُحاول أن أكون مثلهم فأنا صديقة أصدقائهم لا يكتمل أي فريق إلا بوجودي, وأنا حبيبته ملعبهم فلا بد أن أحضر حتى يكتمل العدد وتبدأ المباراة , وأنا مستودع أسرارهم فكل ليلة لابد من جلسة طويلة نتبادل فيها أسرارنا ونضحك على خيبات أصدقائنا , لم أُدرك وقتها ما معنى أن أكون فتاه وما الفرق بيني وبين الصبي , كنت أؤمن بأننا واحد مهما اختلفت الأشكال يظل الجوهر واحد لا اختلاف فيه وأمي كانت تتركني أمارس جنوني وكأنها تُدرك بينها وبين نفسها بأنني سأُجردُ من كل شيء يُسعدني ذات يوم وأبكي شوقا للحظة جهل مرت منذ قرابة العشرين عاما , أمي حكيمة جدا لذلك جئتُ أنا مجنونة جدا ولا حكمة أتعلق بها لتُصبح حياتي أسهل ...
.
كبر إخوتي وكبرت أنا وصارت متابعتي للمباريات لا تُغريهم بالبقاء معي , والليل إن جاء أجد غرفتهم مقفلة وأسمع من خلف الباب حكاياتهم تلك الأسرار التي كنت أُشاركهم فيها , وأحاول التعلق بضحكاتهم لأفهم ما يدور هناك بينهم, أذكرُ جيدا أول مرة وقفت فيها خلف باب غرفتهم اختلس السمع وأُحاول استعاده أسراري معهم , أذكر وقتها بأنني لم أفهم شيئا وبكيت لأنني أدركتُ بأن مشوارا جديدا بدأ بدوني وحكايات ستُروى بلا مباركتي لها ضحكا أو بكاءا اكتشفت بأن كل حقيقة نصل إليها تُشبه صفعة قوية على وجه أحلامنا تتبعثر معها آمالنا في أن تتحقق وتموت معها رغبتنا في التخلي عنها , وكأن الوجع محرض على الثبات واليأس دافع أقوى للتشبث بالأمل ...
.
كنت الأولى في المدرسة أيضا فأنا الطالبة المجتهدة أول العابثات بسير طابور المدرسة , أول الواصلات لشباك المقصف , أول الضاحكات حد البكاء على تعثر المعلمة بذيل ثوبها , لا أحد يجرؤ على إلقاء المقدمة في الإذاعة المدرسية سواي , ولا طالبة مهما بلغت من الدهاء تملك القدرة على منافستي في استحواذ الاهتمام والتغلب على سخط المديرة ...
أذكر جيدا بأنني لم أبكي أبدا أول يوم دراسي لي بل على العكس تماما كنت سعيدة جدا ولم أبحث وسط الحاضرات عن أمي كنت أعرف وقتها بأن المدرسة مشوار جديد سأبدؤه بدونها وسيكون أول خطوة مستقلة أقترفها في حياتي , كنت أُدرك بخيال الطفلة المرهق بأحلام لا تنتهي بأن المدرسة ستُشكل شخصيتي بفتحة فرح وضمة وجع وسكون إحساس وربما شدة خيال خصب لا ينضب , وصدقا كانت الأجمل ربما لأنني فهمتها جيدا أكثر من غيري وتأكدتُ بأن كل يوم سأعيشه فيها سيكون ذكرى أكتب عنها ذات يوم بحنين طفلة صارت أُنثى تقتات على سعادة كانت وفرح غاب , جميل حد الوجع أن نعترف بعد عمر طويل جدا أن أجمل أيامنا هي تلك التي تعود إلينا خلال أسوئها وتأتينا لتهون علينا مرارتها ...
.
كنتُ الأولى بإحساس الآخرين بي , فأنا سيدة الحفل دائما , أُدير رؤوس الحاضرين , احكي بلباقة وأضحك بجنون معادلة صعبة ولكنها كانت سهلة الحل إن خضعت لمقاييس الإحساس , لم أجد صعوبة أبدا في فهم الآخرين ربما لأنني منذ نعومة أظافري تعلمت كيف أقرأ الإحساس وأُفسر أبسط كلمة وأرق ضحكة وربما لأنني هكذا خُلقت أعرف رأي من حولي بي فأُحب من يُحبني وأجتنبُ من لا يستلطفني حتى لا يضيق المكان به , كنت أظن بأن معرفة الآخرين نعمة رائعة أُحسد عليها وبأن قراءة أحاسيسهم موهبة لا أحتاج سواها ولكنني مع الوقت أدركتُ بأنها مشكلة وطريق سهل لخسارة المتعة في الحياة , فأنا لا أُخوض علاقة كمجربة فقط ولكنني أفعلها كصاحبة إحساس تُدرك جيدا نتيجة الارتباط وتعرف نهايته , الآن فقط أُدرك كم هو رائع أن نخوض التجربة دون أن نُدرك نجاحها من فشلها وكم هو مميز ذاك الشعور الذي يأتي بعدها سواء كان جيدا أم سيء فهو يبقى للأبد وصمة لا تُنسى ..
.
أن تكون الأول يعني أن تُبصر ما حولك بوضوح أكثر , وتملك القدرة على معرفه ما يُحيط بك بقدرة أكبر , ولأن لكل شيء في الدنيا ثمن حتى أبسط الضحكات وأتفه ساعات الفرح كان لا بد أن أدفع ثمن كوني الأولى وصدقا كان الثمن غاليا جدا لو خُيرتُ بينه وبين الموت لاخترتُ الثاني غير آسفة على شيء أبدا , أعرف بأن من يقرأني الآن قد يُرددُ بينه وبين نفسه أن فتاة كأنا لا تعدو أن تكون مجرد ناكرة للجميل عالقا معها بقايا دلع لم ترحل بعد وبأنها لا تُدرك أي نعمة كبرت معها وبها , ولا ألوم أحدا فيما يراه فالدنيا خُلقت بألف أالف صورة قد تبدو جميلة للبعض وباهته للبعض الآخر , الدنيا خُلقت بألف ألف باب قد يُفتح أمام البعض ويُغلق أمام البعض الآخر , الدنيا تأخذ أكثر مما تعطي ولأننا نفرح بعطاياها نظُن للحظة بأنها لن تأخذ منا شيئا أبدا وفي نفس اللحظة التي نُحب فيها حياتنا ونُقدس أصغر لحظاتنا نخسر الكثير كمن يقف على قمة جبل سعيدا بنسائم صيف باردة وتفاجئه الريح العاصفة فيسقط باتجاه الهاوية ولا يعود من بعدها معافى كما كان بل يفقد الكثير من دم أحلامه ويُصبح جسد أمله بالدنيا مكسور لا يلتئم مهما جُبِر بالصبر ألف يوم أو يزيد ..
.
ربما مازلت الأولى وربما لا فما أعرفه جيدا الآن أنني مختلفة , لا أكاد أشعر بوجودي لأشعر بتميزي , ولا أُبصر آخر الطريق لأرى نفسي في أوله , ولا أُجيد عد النجوم لأُبصر نفسي معهم , ولا تُغريني الطيور بقدر ما تستهويني السماء , ولا أفرح بالربيع كفرحي بالشتاء , ولا أنتظر القادمين بقدر انتظاري للراحلين , ولا أجد وسط الحفلات ما يُغريني سوى الكعك وقوالب الحلويات ..
.
ربما مازلت الأولى عندهم ولكنني للأسف لا أكترث كثيرا فأنا دفعت ضريبة تميزي في حياتهم وحققتُ لهم ما حلموا به مني , منحتهم الحياة على حساب موتي , صفقت معهم فرحا برحيل آخر لحظة حرية لي معي , ورقصت بالقرب منهم ليشعروا بالرضا عن قراراتهم , وللحظة نسيت نفسي , كنت معهم الأولى مُطيعة حد التوحد معهم وراضية بكل اختياراتهم حد إلغاء أي فكرة تغيير تخطر ببالي , فعلا أن تكون الأول يعني أن تكون الأضعف , الأكثر خضوعا لرغبة من منحوك الامتياز ووضعوك تاج مرصع بالألماس على رأس حياتهم , لا ألومهم ربما أنا من أسأتُ الفهم , وكنت مغرورة بي وتائه عني ...
.
ربما مازلت الأُولى عندهم ولكنني فقدت قائمة الأولويات عندي وألغيت الأرقام من قاموس حياتي , وصارت حياتي مجرد رقم واحد لا مسمى له ولا لغة وصلت لوصف يليق به ولا أحد ممن يعتبرني الأولى وصل إليه ولا شيء أفعله أو أقوله أو حتى أكتبه يعبر عنه , رقما وحيدا لا يخضع لقوانين الحساب , ولا يُقسم إلا عليه ولا يُجمع إلا مع نفسه ولا قواسم مشتركه له مع غيره , رقما غريب في تداعيه ربما يبدو صفرا أحيانا ولكنه يعود ليتشكل كرقم لا حدود له ولا أطراف حادة يرتكز بها على السطر ..
.
فقدتُ قائمة الأولويات عندي وألغيت الأرقام من قاموس حياتي وصارت حياتي مجرد رقم واحد يأخذني إليك أنت فمعك يا نون لا أشعر بأنني الأولى ولا عبء بداية يقتلني ولا مسؤولية التميز تُلاحقني , معك يا نون أشعر بأنني أنا تماما كما يجب أن أكون أنا فلا أحتاج لوصف مركزي ولا يهم كثيرا أين أكون ومتى وكيف , ولا أُفكر برقمي عندك ولا أعود لأُحصي عدد من زاروا قلبك , معك لا أُفكر إلا بأن أكون معك بلا اسم بلا هوية بلا وطن بلا أرقام , حتى احتياجي لك لا أُدرك مداه ولا أرسم له نقطة يرتكز عليها ولا أُحذر قلبي من الانجراف معه إلى ألانهاية ..
.
أنت يا نون أخذت بيدي لأهبط من عرش الأولى ذاك الذي ضحيتُ من أجله بإحساسي بالدنيا بأسرها , أنت حملتني بحبك للسماء السابعة وتركتني أهوي للأرض السابعة أيضا , جربتُ معك كيف يتعفر وجه إحساسي وجعا من بعدك , وكيف تُزهر حدائق قلبي فرحا بحلولك , جربتُ معك يا نون كيف أبتل بمطر لا أراه وأغرق في بحر لا أعرف مداه , جربتُ معك كيف أسهر مع مجرد طيف وأحكي لمجرد أوراق ..
ولدتُ من جديد بين يديك يا نون لا أعرف إن كنت الأولى أو الأخيرة أو حتى اللاأحد والغريب أنه لا يهمني أن أعرف , فأنا سعيدة بولادة ميس جديدة لا تتحمل عبء الأولى ولا تُفكر بثمن جديد تدفعه في المقابل , أنا سعيدة لأنني أحببتُك هكذا دون أن تكون واحدا من أولئك الذين لا يبصرون في وجودي سوى أُنثى أولى تأتي لتهز عرش الهدوء من حولهم فيلتهمونها بأعينهم ولا يُبصرون ما يدور في قلبها وما يجري ما بين روحها وإحساسها ..
.
كتبتُ كثيرا اليوم ربما لأنني لم أتحدث مع أي أحد لأكثر من أربع ساعات حتى الآن , وربما لأنني غاضبة من أحدهم لست سنوات حتى الآن , وربما لأنني لا أعرف كيف أقف ما بين حرفي وإحساسي فلا يندفع كطوفان لا شيء ولا أحد يوقفان امتداده ..
ربما
.
فقط
.
ربما