السبت، 19 يوليو 2008

أنا و مكة





.بالأمس كنت في مكة احتجت لأن أعود الى حيث بدأت
أن أستنشق نفس الهواء الذي استنشقته أول مرة منذ سبع وعشرون سنة
كنت أبحث عن نفس الدفء وأُفتش بين وجوه العابرين عن حكاية تكتبني وعن عين تتذكرني ..
مكة مختلفة
وأنا في مكة مختلفة أيضا
تتعلق روحي بالسماء أكثر وأعود طفلة تشهد مراسم ولادتها من جديد
أخبرتني أمي أنني جئت الى الدنيا في يوم حار جدا
وبأنها حملتني بعد ولادتي الى بيت بسيط بناه والدي بيده
وامتزج عرقه بترابه ولا أملك منه الآن سوى صورة صغيرة اختصرت شقاء رجل كامل في أربع حدود
أخبرتني أمي بأنني لا أنام كثيرا منذ ولادتي
كنت أعاني من مشكلة تكمن في عدم اتفاق أجفاني واستمرار اختلافهما
فلا أجد في نفسي رغبة في تفويت أي فرصة تمنحني رؤية أكثر اتساعا للعالم من حولي
ولأنني ولدت طفلة ترغب في التحليق أبعد من رؤوس الأشجار
رحلنا عن مكة وغادر أبي منزلا أحبه كما أحبني وترك خلفه جدران تحفظ أنامله وممتنة لعناء سواعده .
.احتاج للعودة الى مكة دائما أشعر بأنني فقدت فيها شيئا من روحي
وتركت معها بعضا من بعضي فأحتاج للعودة حتى أتذكرني
أحتاج لهوائها حتى يعود احساسي بي ..
ازدحام شوارعها
وبكاء الأطفال على طرقاتها
وأيادي المساكين التي ملت تستجدي عطف الناس
ووجه "الحجة" المكسور كالجدار البائس خلفها
وأجساد النائمين التي ملت من قسوة الدنيا وتعبت من البحث عن سقف يحتويها
فأختارت السماء سقفا
ومكة أرضا
ووجوه العابرين التي تحمل معها حكايات غريبة وتروي حضارات متميزة
وعصى عجوز أعمى يتلمس الطريق ويخطو بثقة برب السماء
وقبعة شرطي أنهكها الحر يرفعها ليريحها فتسقط أرضا ويعود ليحملها ويترك مكانها همومه وقلة صبره
أصوات أنين السيارات
وقرع الأحذية على الطرقات
ودعاء البائعين بالرزق من الله
وتعلق اليائسين برحمه من لا أحد سواه
دخان السيارات الثائر يزدحم مع دخان الشواء في المطاعم
ووجوه العابرين تتلون مابين جائع ممتليء وجائع محروم
وأيادي تعرف مواضع الألم فتربت عليها بحنان تمتد برغيف خبز وبصحن فول أو حتى كأس ماء
.أحتجت لمكة
لأرض احتضنت أول صرخة لي
وكانت شاهدة على لون دمعي
وصارت عيناي باتساعها
وقلبي متشربا بها
احتجت لساعتين أقبل فيها أرض الحرم
وأغسل عيناي بدموع شوق للكعبة
احتجت لساعتين أقف فيها عند كل برادة ماء لأشرب كأسا من زمزم
لأروي قلبي فزمزم تروي القلب فقط ولا تعرف من الجسد سوى الفم الذي يحملها للروح
احتجت لساعتين حتى أبكي بحرية بهدوء بألم وبيقين
احتجت للطواف حتى أسمع أنات المتعبين وأرى تعلقهم بأستار الكعبة طمعا في راحة روح ونقاء قلب
احتجت أن أُعطر يدي بعبق الكعبة وأن أٌقبل النسائم التي تمر بالقرب منها
احتجت حياة وأنا المتخمة بالموت حد الثمالة وأكثر..
تذكرتُكَ في مكة
كُنت أبحث عن نسيانك هناك ولكنك جئت مع النسائم
مع أصوات الدعاء
مع بكاء الأطفال
جئت مع رفرفة الحمام في ساحة الحرم
ومع كأس زمزم باردة
جئت كما تجيء الي دائما
الفرق الوحيد أنني رحلت لأهرب منك فوجدتني أهرب معك
تذكرتُكَ في مكة وكأن الله يُثبتُ لقلبي أن حُبك ماكان ذنبا أستحق غضبه
وماكان خطيئة أُداريها عنه
جئت الي طيفا أبكاني حد النحيب الصامت
ذاك النحيب الذي يقتلك بلا صوت
ويُزعج الغافي من جراحك
بكيت كل لحظة غابت بدونك
وكل دقيقة ماتت بلا حُبك
بكيت ضعفي وانهزامي
بكيت وجعي منك وعليك ومعك
بكيت كثيرا وعرفت وقتها بأنني أُطهر قلبي من شكه في حُبك
وأُنقي سريرتي من خجلي من هواك
.أُحبك وهاهي مكة أيضا تُحبك معي
كنت أبحث عمن يعينني عليك فأعانك علي
وكأن حُبك عقد اتفاق مع الدنيا بأسرها ليجعلني أشعر به حيثما أرحل
وأجده كيفما ألتفت
أُحبك وأعرف بأنني لا أخون أحدا بما أحمله لك
ولا يُصاب سواي بوجع فقدك
أُحبك وأؤمن بأن من أسكنك قلبي يُدرك تماما أي نهاية معك تنتظرني
وعلى أي طريق سيموت تعلقي بك .
.كانت مكة مختلفة وأنا أيضا كنت مختلفة
وأنت أيضا كنت مختلفا
والسحاب ولون الشجر
وأجنحة الحمام وصوت ارتطام أوراق الشجر بالأغصان
كل شيء كان صاخب جدا جدا
حتى صوت تدفق الماء
وابتلاع الطعام
وانحدار الدمع
يرتفع رصيد الصخب كلما زاد احساسي بك
وبالرغم من ذلك لا أسمع سوى همسك
ولا يُزعجني الا انسحاب صوتك .
أحبك