السبت، 19 يوليو 2008

صمت


..
تعودت على الصمت وتعود هو علي ربما ألوم ظروفي أو لأكن أكثر صدقا مع نفسي ألوم أمي فأنا منذ طفولتي كنت أُعلق حكاياتي على باب قلبها أسرد أمامها أتفه تفاصيل حياتي وكانت تسمعني لأنها إن لم تفعل ما كنت سأصمت أبدا وما كان صوت الضجيج الذي يأتي معي سيرحل ويتركها بسلام , أذكر جيدا سردي المجنون لحكاياتي كلما عُدت من المدرسة وكنت أعرف وقتها بأن أمي تركت مهمة التعليق على سخافاتي لصوت القدور وقرع الكؤوس , كنت أُدرك بأنني عبء ثقيل على سمعها المشغول بألف صوت عداي , والمرهق من تتابع الضجيج وارتفاعه من غيري , كنت أعرف كل هذا ولم أستسلم أبدا كبرت وأنا لا أجد ليومي معنى إلا إن سردت تفاصيله أمامها ولا أُحب أحدا إلا إن باركته لي بابتسامة رضا ...
.
الآن وبعد عمر طويل عشته معي استسلمت للصمت وتنازلت عن مهمة إزعاج أمي , وصرت أعجز عن السرد بذات النفس الطفولي الذي كبرت عليه يوما ,الآن أمي مشغولة بألف حكاية مهمة لا تصل إلى امتداد ظل حكاياتي التافهة , والغريب أن صوت القدور وقرع الكؤوس ما عاد يُشاطر من يسرد قصصه ربما لأن الزمن تغير كثيرا والحكايات أصبحت أكثر متعة من ذي قبل , وأطفال كبروا على طاق طاق طاقية لا يحملون من الإثارة ما يستحق التعليق أو حتى الضحك , وربما أنا من كنت فاشلة في سرد حكاياتي وما نجحت في استحواذ اهتمام أمي فقررت هي مجاملة إحساسي بتعليقات لا تتذكرها جيدا ولكنني كبرت بها ومعها وآمنت بأصغر حروفها , اليوم أُذكرُها بها فتضحك على ذاكرتي التي لم تتذكر إلا ما نسيته ولا تُعيد أمامها إلا تلك اللحظات التي سقطت سهوا من ذاكرتها ..
.
الآن وبعد عمر طويل أُدرك تماما بأن أمي كانت على حق , فها أنا استنفذ طاقة الكلام ولا أُجيد الثرثرة كثيرا ولا أُحب تكرار الأصوات حولي ,و معصمي لم يحتفل بساعة لأكثر من عدة أيام دائما احتفظ بها بعيدا وأحرص دائما على جمع الساعات في غرفة واحدة لا أزورها الا نادرا فصوت عقارب الساعة يُشبه نقر عصفور على شباك غرفة مهجورة لا أحد فيها سوى زمن يحسب عدد نقراته دقائق ويُحصيها ثواني لتستحيل مع الوقت ساعات ..
.
الآن أُدرك كم كانت أمي محقة فها أنا أكبر لأستحيل أُنثى تتبع حكايات من حولها أكثر من تتبعها لحكاياتها التي لم تُقال أبدا , تُنصتُ لصوت الريح وأنين الأرض وصراخ السماء , تُبصر خلف كل باب قصة , وعند كل قارعة طريق بداية لحكاية ...
ها أنا الآن يا أمي أُصاب بجنون الحكاية , وأتتبع القصص لعلي أجد من يسردها باحتراف أكثر مني , ومن يستطيع أن يحتوي السامع بسحر فشلتُ في امتلاكه رغما عني , مُتعب يا أمي كل إحساس بالخذلان وموجعة كل لحظة تعود لتُذكرني بكل حكاية مزعجة حملتُك أمانتها , اليوم أُدرك جيدا بأنك تحملت ذات طفولة ثرثرتي المزعجة وها أنت الآن تتحملين صمتي المتعب وفي كلا الحالتين كنت تبحثين عن ابنة تُدرك ما تُريد ولا تتعثر بأخطائها مهما كررتها أمامك كلمة أو صمت , في كلا الحالتين كنت تبحثين عن ابنة تُشبهك يا أمي وأنا لا أصل مهما حاولت لامتدادكِ شموخا باتجاه السماء , أنت مختلفة يا أمي وأنا عادية حد البساطة وأكثر ...
.
تعودت الصمت يا أمي وألومك جدا , مازلت أذكر تباهيك بي دائما وحكاياتك عن فصاحتي وسلامة مخارج حروفي مازلت أذكر كيف كنت تحكين لي عن كلمات نطقتها في السنة الثانية من عمري وكأنني ابنة العاشرة كنت سعيدة يا أمي لأن كلماتي ابنة الثانية عالقة في ذاكرتك وها أنا الآن تعيسة لأن حكاياتي ابنة العشرين سقطت سهوا ...
.
تعودت الصمت يا أمي وألومك جدا فأنا أخجل الآن من سرد أي قصة أمامك فكل كلماتي أجدها ركيكة وأكثر حكاياتي اثارة عندما أنوي سردها أمامك أجدها مملة .. كبرت الآن يا أمي كثيرا وما عُدت اهتم بحكايةتأتي وترحل كل ما يهمني الآن أن أجلس بالقرب منك وأسمعك , صدقيني يا أمي أدمنتُ حكاياتك أنتِ , وصرت أقيس عليها كل جميل من حولي , ولأن ما تنطقين به جمالا فاق وصفي التجأتُ للصمت وألجمتُ به كل حكاية سخيفة أفكر بسردها بين يديك , فأين لي بقصة لها مفعول السحر وتقع في القلب موقع النبض , أنا يا أمي لا أعرف كيف أتكلم في حضرة الدنيا ولا أُجيد الثرثرة وأنا بين يدي الجنة اغفري لي صمتي فأنا تعودت عليه الآن , فلا أملك من الكلمات في حضرتك سوى الله لا يحرمني منك ولا أطلب منك بعد كل ضحكة سوى رضاك أمي ..
.
تعودت الصمت وتعود هو علي, و لأن أمي تُجيد قراءة صمتي أكثر من الإنصات لثرثرتي أشعر بأنها تبحث في عيناي دائما عنك وكأنها تعرف بأن حكاياتي السخيفة لا أُحب سردها إلا لك , ولا أجد حرجا من تكرارها أمامك ولا أكترث أبدا إن أصابك الملل أو أتعبك الإزعاج ففي كلا الحالتين لا أعرف أمامك كيف أُداري سوءة أخطائي ولا أجد بين البشر من أترك نفسي معه سواك ليُحصي زلاتي..
أُحبك لأنني لا أهتم كثيرا بتفاهة حكاياتي معك , ولأنني قد أحكي لك عن الديك وإزعاجه دون أن أخجل من سخافتي , ولأنني بالرغم من غيابك الموجود معي أسرد قصصي لك , كمجنونة تُحاكي مرآة تعكس صورتها وتُقسم بأنها لا ترى سواك ...
.
أُحبك ولك أن تقيس مقدرا حبي لك الآن , فأنت يا سيدي تحتل آخر سطور نصي عن أمي , أتُدرك مامعنى أن تكون هنا مع الدنياوالجنة ؟؟!!!